هذه إحدَى الدّراسات التي كنت قد ألّفتها منذ زمن و أودعتها رفوف مكتبتي ، أطلّتْ عليّ اليوم و أنا بصدد إدخال بعض الترتيب . رأيتُ فيها ما يمكن أن يستقيم مع ما نشهده من أوضاع فارتأيتُ نشرَها . و فيها مقاربة لواقع الخلافة العثمانيّة خلال القرن التاسع عشر و دراسة مقارنة لرؤية كلٍّ من ابن أبي الضّياف و عبد الرّحمان الكواكبي لمفهوم الاستبداد مع لمسة نقديّة للحلول البديلة التي قدّمها كلا الرّجلين .

واقع الخلافة العثمانيّة
~~~~~~~~~~~~~

أ- في الدّاخل
لقد بلغت الخلافة العثمانيّة خلال القرن التاسع عشر درجة كبيرة من الانحطاط فقد تردّت سياسة السّلطنة إلى الفساد في ظلّ حكم استبدادي انتهج الأحكام بالسّجن و الإعدامات ، إلى جانب فساد الحاشية الذي شجّع على التّمادي في الظلم و كان الواقع الاقتصادي لا يقلّ انحطاطا فقد كبّلت الدّول الأوروبيّة الرّجل المريض بالدّيون الخارجيّة ، و من ناحية أخرى فقد اعتمد نظام الحكم توزيعا غير عادل للثروات فاستثرَى مالكو الأراضي من بايات و وزراء و أفراد الحاشية بينما رزح الفلاّحون تحت الضرائب و الاستغلال فعمّ الفقر في أرجاء الخلافة و اشتدّت الفوارق الطبقيّة .

ب- في الخارج
تسارع التقدّم الصّناعي و التطوّر الاقتصادي الأوروبي في مقابل الانحطاط الذي تشهده الخلافة العثمانيّة يوما بعد يوم فبدأت تظهر النّوايا الاستعماريّة في شكل تسهيل القروض و تمديد الدّيون و الوصاية على الاقتصاد ثمّ بشكل مباشر بالاحتلال و فرض الحماية [ الجزائر ، تونس ، مصر ، سوريا ... و غيرها ] و قد طرح هذا الواقع على المفكّرين العرب ضرورة تقييمه و البحث في أسباب التخلّف في ظلّ قضيّة نظام الحُكم و تقديم الحلول البديلة . فكان الانقسام جليّا في ظهور اتّجاهيْن أحدهما سَلفي لا يرى إصلاحًا إلاّ تحت عَبَاءة الشّريعة يمثّله أحمد بن أبي الضّياف ، و اتّجاه ثانٍ تجديدي ثوري ينزع إلى ما عُرِفَ في العصور الحديثة بالعلمانيّة و يمثّله عبد الرّحمان الكواكبي .

أسباب طرح القضيّة
~~~~~~~~~~~~~

كان الذي حَدَا بالمفكّرين إلى إثارة القضيّة انتشار المَشيئة المُطلقة و تجاهل القانون و ما في ذلك من خطر على الأمّة ، و إخلال العلماء بدورهم فقد انصرفوا إلى مهامّهم الرّوحيّة و وقفوا من السّياسة موقف المُتفرّج أو موقف المُآزر لرجال السّلطة ، هذه كانت الدّوافع الموضوعيّة . أمّا الدّوافع الذاتيّة التي حرّكت الرّجُليْن ، فيُمكن أن نلخّصَها في غيرة ابن أبي الضّياف على الذّاتيّة الإسلاميّة إذ يَرَى أنَّ الإصلاح هو واجب العلماء في الإسلام لاسيّما بعد أن اطّلعَ على أحوال الغرب عن قرب فقد حرّكته عاطفة دينيّة يدفعه في ذلك حبّ الذّود على الدّيار الإسلاميّة و الذي يُقابله الجَشَعُ الأوروبي . أمّا الأسباب التي حَدَتْ بالكواكبي فتتمحور في واجب المفكّر إزاء أمّته ، و يَرَى أنّ أساسَ الخلل كامن في طبيعة الحُكم و ليس خارجًا عنه ، و لا ينطلق من واعز ديني بل من الواقع المعيش . يقول الكواكبي " إنّ انعدام التّنظيمات و حريّة الاجتماعات و صدق المفاوضات من أسباب فتور الأمّة و سلبيّتها ... أرَدتُ أنْ أنَبِّهَ الغافلين لمَورد الدَّاء الدّفين عَسَى يَعرف الشرقيُّون أنّهم هم المُتسبِّبُون لما هم فيه ، فلا يَعتبُون على الأقدَار و لا الأغيَار و عَسَى الذين فيهم بقيّة رَمَق من الحَيَاة يَستدركون شأنَهم قبل المَمَات . "


مفهوم الاستبداد عند الرّجلين
~~~~~~~~~~~~~~~~~

يُعرّف ابن أبي الضّياف الملك المُطلق بقوله " يكون تصرّف الحاكم عن طريق الهَوَى وافق المصلحة العامّة أو لم يوافق ، و وافق العقل أو لم يوافقه فعلى الرعيّة أن تنقاد لما في الخروج عن أولي الأمر من حَظر في الشّريعة ، على أنَّ الرّاعي إنّما هو فردٌ غير معصوم يلزمه ما يلزم البشر " فابن أبي الضّياف يقصد بالاستبداد المُلك المعتمد في حكمه على القهر المستَمَدّ من الاجتهاد الشخصي المرتبط بالهَوَى
و يلتقي الكواكبي معه في مفهومه للاستبداد فيقول " الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأيه فيما تنبغي الاستشارة فيه و يُرَادُ به استبداد الحكومات خاصّة ، و الاستبداد اصطلاحا هو تصرّف فرد في شؤون الرعيّة كما يشاء و يتمثّل في الحكومة التي لا توجد بينها و بين الأمّة رابطة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم ... لو كان الاستبداد رجلا و أراد أن ينتسب لقال : أنا الشرّ و أبي الظّلم و أمّي الإساءة و أخي الغدر و أختي المسكنة و عمّي الضُرّ و خالي الذلّ و ابني الفقر و ابنتي البطالة و وطني الخَرَاب و عَشيرتي الجَهَلة " انتهى كلام الكواكبي


آثــارُ الاستبــداد
~~~~~~~~~~~~~

على الحـاكم :
يقول الكواكبي " الاستبداد يضغط على العقل فيفسده و يُحارب العلم فيفسده و يُغالب المَجدَ فيفسده و يُقيمُ مَقامَهُ التمَـجّد . و التمجّد هو كبرياء المستبدّ يُحَرّف شرَفَ الانسانيّة فيكون عَدوًّا للعَدل " و يصف الكواكبي الوزراء بأنّهم وزراء تنفيذ و نفاق فهم ينفّذون أوامر السّلطان دون المناقشة و تقديم النّصح و الرّأي

على الاقتصــاد :
يقول ابن أبي الضّياف " و ملوك الإطلاق اتّخذوا السِكَّـةَ مَتجَـرًا للرّبح فأنفقوها في التّرف و أبَّهَة المُلك و مَذاهب العَظمَة ببناء الهياكل و القصور بزَعْم أنّ في ذلك بقاء للذّكر لكنّه بغير جَميلٍ " أمّا في نظر الكواكبي فإنّ شدّة الملك القهريّ تفضي إلى نقض الصّفات الإنسانيّة كإباء الضّيم و حبّ الوطن حتّى صار بعض أهل الجهات عَبيدًا للجباية ليس لهم مَسقطٌ و لا مَنشَأ إلاّ إعطاء الدّرهم بمَذلّة . يقول الكواكبي " المُستبِدُّ إنسانٌ ، و الإنسانُ أكثرُ ما يَألفُ الغنَمَ و الكلابَ ، فالمستبدُّ يَوَدُّ أن تكون رعيَّته كالغنم طاعَةً و كالكلابِ تَذَيُّلاً و تمَلّقًا و على الرّعيَّة أن تكون كالخيْل إنْ خُدِمَتْ خَدَمَتْ و إنْ ضُرِبَتْ شَرَسَتْ ، بل عليها أن تعرف مَقامَها هل خُلقَتْ خادِمَة للمُستبدّ أم جَاءَتْ به ليَخدِمَها فاستخدَمَها " و حيثما حَلّ الاستبداد اضمحَلّ العَدلُ فتَرَاخَت الهِمَمُ عن العَمَل إذّاك تتعطّل الدّورة الاقتصاديّة

على العِــلــم :
ينحصر مفهوم العلم عند ابن أبي الضّياف في العلوم الدينيّة الشّرعيّة و يُؤكّد على ضرورة التزام العالم بالأمر بالمعروف و النّهي عن المُنكر ، أمّا الكواكبي فيقول " ليس من غرض المُستبدّ أن نَتَنوَّرَ بالعلم لأنّه لا استعبَادَ مَا لمْ تكنْ الرَعيَّة حَمْقاء ... و المُستبدُّ لا يَخشَى علوم اللّغة إذا لم تكن وراء اللّغة حكمة حَمَاسٍ تعْقدُ الألويَة لأنّه يَعرف أنَّ الزّمانَ ضَنينٌ بأمثال الكُمَيْت و مونتسكيو و شيلر و كذلك لا يخاف المُستبِدّ من العلوم الدينيّة المُتعَلّقة بيوم المَعَاد لأنّها لا ترفعُ غَبَاوَة و لا تُزيلُ غَشَاوَة و إنّما يَتلهَّى بها السَذَّجُ و البُسَطَاء ، و إنّما تَرتَعِدُ فرَائصُه من علوم الحَيَاة مثل الفلسفة و التاريخ و حقوق الأمم و السّياسة المدنيّة و الخطابة الأدبيّة و غيرها من العلوم المُمَزّقة للغُيُوم ، فالمُستَبدُّ سَارقٌ مُخادِعٌ و العلماء مُنتبهُون مُنَبِّهُون و للمُستبدِّ أعمَالٌ و مَصالحُ لا يُفسِدُها عليه إلاّ العُلماء " هكذا يبدو أنّ الاستبداد مُفسِدٌ حيثما جَثمَ . فكيف ارتأى المصلحَان الحَلّ لأزمة الاستبداد في الحُكم العَربي ؟ و ما مَدَى واقعيّة تلك الحلول




عن:WALLADA على الساعة 22:09

التسميات:

enfin un peu de diversité sur le blog !
ou sont tous les autres contributeurs???